إليكم صورة من المفاوضات بدون أي زيادات ، عسي نتعلم منها .
حين تقدم عمرو ابن العاص بجيشه لفتح مصر ، أرسل المقوقس إلي عمرو أن ابعثوا إلينا رسلا منكم نعاملهم و نتداعي نحن و هم إلي ما عسي أن يكون فيه صلاح لنا و لكم ।
يقول المقداد بن الأسود : فأرسل عمرو بن العاص عشرة من أصحاب رسول الله و أمر عليهم عبادة بن الصامت ،
و كان عبادة أسود ، طوله عشرة أشبار ।و لما دخل الوفد علي المقوقس هاب المقوقس من عبادة بن الصامت لسواده .
فقال : نحو عني هذا الأسود.
و رد عليه أحد أعضاء الوفد : إن هذا الأسود لأفضلنا رأيا و علما و هو سيدنا و خيرنا و المقدم علينا .
فقال المقوقس لعبادة : تقدم و كلمني برفق ، فاني أهاب سوادك .
فتقدم عبادة و قال : لقد سمعت مقالتك و إن فيمن خلّفت من أصحابي ألف رجل أسود ، كلهم أشد مني سوادا و أفظع مني منظرا ، و لو رأيتهم لكنت أهيب لهم منك لي ، و أنا قد وليت و أدبر شبابي و إني مع ذلك بحمد الله ما أهاب مائة رجل من عدوي و لو استقبلوني جميعا ، كذلك أصحابي ، و ذلك إنما رغبتنا و بغيتنا الجهاد في الله و ليس غزونا عدونا ممن حارب الله لرغبة في الدنيا ...و ما يبالي أحدنا أكان له قنطار من ذهب أم كان لا يملك إلا درهما لأن غاية أحدنا من الدنيا أكلة يأكلها ، و إن كان له قنطار من ذهب أنفقه في طاعة الله و أقتصر علي الذي بيده ॥ و عهد إلينا رسول الله ألا تكون همة أحدنا من الدنيا إلا فيم يمسك جوعته و يستر عورته ...
فلما سمع المقوقس ذلك قال لمن حوله : هل سمعتم مثل هذا الكلام قط ؟ لقد هبت منظره ، و إن قوله لأهيب عندي من منظره .
ثم أقبل المقوقس علي عبادة فقال : أيها الرجل قد سمعت مقالتك ... و قد توجه إلينا من جميع الروم مما لا يُحصي عدده ، قوم معروفون بالنجدة و الشدة ، ممن لا يبالي أحدهم من لقي و لا من قاتل و إنا لنعلم أنكم لن تقووا عليهم و لن تطيقوهم لضعفكم و قلتكم و قد أقمتم بين أظهرنا أشهرا و أنتم في ضيق و شدة من معاشكم و حالكم ، و نحن نرق عليكم لضعفكم و قلتكم و قلة ما بيدكم و نحن تطيب لنفوسنا أن نصالحكم علي أن نفرض لكل رجل منكم دينارين دينارين و لأميركم ألف دينار فتقبضوها و تنصرفون إلي بلادكم قبل أن يغشاكم ما لا قوة لكم به .
فقال عبادة : يا هذا لا تغرن نفسك و لا أصحابك . أما ما تخوفنا به من جمع الروم و عددهم و كثرتهم و أنا لا نقوي عليهم ، فلعمري ما هذا بالذي تخوفنا به ، و لا بالذي يكسرنا عما نحن فيه ، إن كان ما قلتم حقا فذلك والله ارغب ما يكون في قتالكم ... لان ذلك أعذر لنا عند ربنا إذا قدمنا عليه و إن قُتلنا عن أخرنا كان أمكن لنا في رضوانه و جنته ، و ما من شيء أقر لأعيننا و لا أرحب إلينا من ذلك ، و إنا منكم علي أحدي الحسنيين إما أن تعظم لنا بذلك غنيمة الدنيا إن ظفرنا بكم أو غنيمة الآخرة أن ظفرتم بنا ... و ما منا رجل إلا و هو يدعو ربه صباحاو مساء أن يرزقه الشهادة و ألا يرده إلي بلده و لا إلي أهله . و ليس لأحد منا هم فيما خلّفه ، و قد استودع كل واحد منا ربه أهله وولده ، و إنما همنا ما أمامنا . و أما قولك إنا في ضيق و شدة من معاشنا و حالنا فنحن في أوسع السعة و لو كانت الدنيا كلها لنا ما أردنا لأنفسنا أكثر مما نحن فيه فانظر الذي تريد فبينه لنا ، فليس بينناو بينكم خصلة نقبلها منكم إلا خصلة من ثلاث فاختر أيها شئت و لا تُطمع نفسك في الباطل .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق